لطالما هيمن الدولار الأمريكي على المشهد المالي العالمي، إذ كان بمثابة العملة الاحتياطية الأساسية والوسيط الرئيسي للتجارة الدولية. إلا أن الأحداث الجيوسياسية الأخيرة، ولا سيما الأزمة الروسية الأوكرانية، أعادت إشعال المناقشات حول وجوب خفض هيمنة الدولار عالمياً.
لاحظ "ألكسندر وايز" من قسم البحوث الاستراتيجية في "جي بي مورغان" أن "التحولات الجيوسياسية والجيوستراتيجية قد جلبَت مرةً أُخرى خطر نزع الدولار إلى الواجهة، حيث تكرر ظهور هذا الموضوع بشكل دوري منذ أن بدأت حقبة ما بعد الحرب".
ووفقاً للتقرير الذي نشره بنك "جي بي مورغان" في 31 أغسطس، دفع فرض الولايات المتحدة الأمريكية العقوبات الاقتصادية على روسيا، إلى جانب التحديات التي يواجهها الدولار الأمريكي وسط ارتفاع أسعار الفائدة، العديد من الدول إلى إعادة النظر في اعتمادها على الدولار واستكشاف البدائل الأُخرى.
والدليل الحي على هذا التحول هو قرار بوليفيا الأخير بإجراء التجارة باستخدام الرنمينبي (اليوان) الصيني، على خطى البرازيل والأرجنتين.
ماذا يعني نزع الدولرة؟
يشير إلغاء الدولار من المعاملات العالية إلى انخفاض دور الدولار بشكلٍ كبير في قطاعي التجارة والتمويل العالميين، مما يُشكل تحدياً كبيراً لسوق رأس المال العالمي المتمركز حول الدولار، إذ تتعامل الكيانات العالمية في الغالب بالدولار
ما محفزات هذا التغيير؟
يمكن للعوامل الداخلية في الولايات المتحدة، مثل الاستقطاب السياسي المتزايد، أن تُهدد استقرار الدول، مما قد يُقوض مكانة الدولار كملاذٍ آمنٍ عالميّ.
كما يمكن للعوامل الخارجية، مثل الإصلاحات التي تشهدها الدول الأخرى، أن ترفع من قيمة العملات البديلة.
وفي هذا السياق، شدد "وايز" على أن العملة الاحتياطية يجب أن تكون "آمنة ومستقرة وقادرة على توفير سيولة كافية لتلبية الطلب العالمي المتصاعد"، وهو ما قد يكون الدولار غير قادر على تحقيقه في ظل الأزمات المتلاحقة.
الآثار المُترتبة على نزع الدولرة:
من المُمكن أن يتسبب الابتعاد التدريجي عن الدولار في إعادة معايرة القوة العالمية، وبالتالي إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي، الأمر الذي ستتحمل الولايات المتحدة عواقبه وحدها، وتواجه انخفاضاً محتملاً في قيمة أصولها المالية.
وعلاوةً على ذلك، تنبأ "وايز" بأن الأسهم الأمريكية ستعاني أيضاً، كما سيكون هناك ارتفاع في العوائد الحقيقية بسبب السحب الجزئي من الدخل الثابت الأمريكي.
لا تزال الآثار الأوسع على النمو في الولايات المتحدة غير معروفة بشكلٍ كليّ، ففي حين أنه يُمكن لضعف الدولار أن يدفع بالولايات المُتحدة لأن تُعزز قدراتها التنافسية، إلا أنه في نفس الوقت قد يردع ضعف العملة الاستثمارات الأجنبية في البلاد.
وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي انخفاض الدولار إلى إضافة ضغوطٍ تضخميةٍ على الاقتصاد، إلا أن حجم التأثير الكلي لهذه العملية لا يزال بحاجة للمزيد من للدراسة.
معضلة العملات النقدية:
في حين أن هناك العديد من المؤشرات التي تدل على تراجع دور الدولار في أسواق العملات، إلا أن هيمنة الدولار لا تزال قائم، حيث أشارت "ميرا تشاندان" المسؤولة في "جي بي مورغان" إلى أنه بالرغم من انخفاض الاعتماد على الدولار الأمريكي في احتياطيات العملات الأجنبية، إلا أن استخدامه الإجمالي على المستوى العالمي لا يزال كبيراً نسبياً.
أدى انخفاض هيمنة الدولار إلى ظهور متنافسين على "عرش العملة الاحتياطية العالمية"، بما في ذلك الرنمينبي (اليوان) الصيني، الذي لا يزال مُستمراً في النمو، بالرغم من انتشاره العالمي الضئيل.
ويعتقد "وايز" أنه على الصين أن تجري إصلاحاتٍ واسعة النطاق، بدءاً من سيولة السوق ووصولاً إلى الأطر القانونية، قبل أن يتمكن الرنمينبي من تحدي الدولار بشكلٍ فعال.
أسواق النفط: جبهة جديدة للحرب على الدولار؟
يشهد سوق النفط ابتعاداً تدريجياً عن الدولار، حيث أشارت "ناتاشا كانيفا" المسؤولة في "جي بي مورغان" إلى أن تأثير الدولار على أسعار النفط العالمية يتضاءل. ويتجلى هذا التحول في معاملات روسيا الأخيرة، التي تمت فيها مبيعات النفط باستخدام عملاتٍ أُخرى غير الدولار.
وعلاوةً على ذلك، تُشير بيانات مركز "جي بي مورغان" للأبحاث إلى تناقص الارتباط بين الدولار الأمريكي وأسعار "خام برنت" على مدى العقد الماضي.
مقالات ذات صلة: رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) تُوسّع نظام المدفوعات الخاص بها لتقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي
مُستقبل الدولار:
في حين أن هناك الكثير من العلامات التي تُشير إلى السعي العالمي نحو إلغاء الدولار الهامشي، إلا انه من غير المرجح أن يحدثَ انخفاض سريع ومُفاجئ في هيمنة الدولار.
يعتقد "وايز" أن السيناريو الأكثر معقولية هو إلغاء الدولار جزئياً وتولي الرنمينبي الصيني بعض من أدوار الدولار، خاصة بين دول عدم الانحياز وحلفاء الصين التجاريين. مما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى نشوء نظم بيئية مالية إقليمية، يهيمن على كل منها عملة مختلفة.