جلبَ التطوُّرُ السريعُ للاقتصاد الرقميِّ إمكاناتٍ ومخاطرَ جديدةً يمكن أن تُحدث ثورةً في القطاع المصرفي. لكنَّ الخيارَ بسيطٌ: التكيُّفُ أو التخلُّف عن الركب.
دارَ نقاشٌ كبيرٌ حول تأثير العملات المشفرة في الآونة الأخيرة، وفي الدوائر المصرفية، بالتأكيد، يجري التعامُل مع عبارة "العملات المشفرة" نفسِها بازدراء، كما لو كانت معقل "المنحطِّينَ" والمجرمينَ وغاسلي الأموال. علماً بأنَّ إشارةَ المؤيدين المتشدِّدين للعملات المشفرة، بمن فيهم المؤلفون، إلى أنفسِهم بموَّدة على أنَّهم "منحطُّون" (Degens) لا تساعد في هذا السياق أبداً.
لكنَّ هذه ليست مقالةً حول عملات الميم والعملات البديلة والاتجاهات والإشارات وتحقيق عوائد 100x على المراجحة. إذ إنَّه ثمَّةَ ما يكفي من القيل والقال والمناقشة حول هذه الموضوعات في مجموعات تيليغرام السرية ومساحات تويتر وخوادم ديسكورد للمدعوين فقط. هذه مناقشةٌ حول تقنية البلوك تشين، والتي، على عكس المعتقدات الشائعة، ليست مرادِفة ومقيَّدة بالبورصات التي تتعامل في العملات المشفرة.
العملات المشفرة هي حالةُ استخدام واحدة — مرئية للغاية ويُحكى عنها — لتقنية البلوك تشين، ولكنَّها ليست حالةَ الاستخدام الوحيدة، وحتى الآن، الأقلُ إثارةً للاهتمام.
تقدِّمُ تقنيةُ البلوك تشين وغيرُها من التطوُّرات في القطاعات الناشئة، مثلَ الذكاء الاصطناعي، فرصةً فريدة للقطاع المصرفي للدخول في القرن الحادي والعشرين.
فالثورة جاريةٌ فعلاً، حيث إنَّ الارتفاعَ المطرد في شركات التكنولوجيا المالية ومقدِّمي خدمات الدفع والحلول المبتكرة منتشرٌ حقَّاً في عالم الشركات الناشئة. لن يُحكى عن هذه الثورة على التلفاز، ولكن ستُسرد حاكيتُها في الوقت الفعليِّ في مساحات تويتر في وقت متأخرٍّ من الليل أو مناقشاتِ غيت هاب أو موضوعات ريديت لأولئك الذين يعرفون أين يبحثون.
الأصول الافتراضية: فرص للمؤسسات المالية
ستستمرُّ التحدِّيات التي تواجه القطاع المصرفي طوال عام 2024 بسبب تراجع الاقتصاد العالمي والمشهد الاقتصادي المتنوع. كما سيتعيَّن تنفيذُ استراتيجيات جديدةٍ لزيادة قدرة البنوك على كسب الإيرادات وإدارة المخاطر والسيطرة على النفقات. تشهدُ المؤسَّسات المالية وأسواق رأس المال تغيراتٍ هيكلية أساسية بسبب العديد من الضغوط التي تسبب الاضطراب. إذ تشمل العواملُ التي تدفع هذا الاتجاه ارتفاعَ أسعار الفائدة، وتقلُّصَ المعروض من النقود، والقوانينَ الأكثر صرامة، ومتطلبات الاستدامة، والصراعات الجيوسياسية.
كما يتسبَّب الاعتمادُ الواسع النطاق للأصول الافتراضية في إحداثِ بحر من التغيير في عالم التمويل. خذ التحويلات، على سبيل المثال؛ فعبر استخدام تقنية البلوك تشين، يمكن تحقيق تحويل واحد من بنك في بلد ما إلى البنك الوجهة في بلد آخر على الفور، بسلاسة ومن دون احتكاك غير ضروري — أو النفقات — أو البنوك الوسيطة المتعددة.
يمكن جعلُ رحلة العميل أكثر شفافيةً وأماناً وكفاءة. وقد تلبِّي البنوكُ الاحتياجات المتغيِّرة لعملائها من الخدمات المالية الرقمية والوصول إلى مصادر جديدة للإيرادات عبر تكوين شراكاتٍ مع شركات الأصول الافتراضية التي تُكمل المسارات المصرفية الحالية بتكنولوجيا البلوك تشين والبنية التحتية.
تتعاون البنوك بنشاطٍ مع شركات الويب 3 لتحسين الإيرادات والعمليات. أولاً، العقارات والأسهم والسندات ليست سوى أمثلةً قليلةً على الأصول التقليدية التي قد ترمِّزها البنوك باستخدام البلوك تشين. وعبر ترميز الأصول، يمكن للبنوك تحسينُ السيولة وتقصير أوقات المعاملات وتبسيط إدارة الأصول من خلال إنشاء وإصدار الرموز الرقمية التي تمثل حقوق الملكية.
المزيد على كوينتيليغراف عربي: البلوكتشين منزلٌ مثاليٌّ لرواد الأعمال الاجتماعيين
يمكن للمستهلكين الوصول إلى أشكالٍ جديدةٍ من خدمات الاقتراض والإقراض والتداول عندما تدمج البنوك بروتوكولات التمويل اللامركزي الهجين (DeFi). وبفضل التمويل اللامركزي، يمكن للبنوك توسيعُ خطوط منتجاتها، والوصول إلى جمهور أوسع، إلى جانب زيادة دخلها من رسوم المعاملات.
كما يمكن للبنوك أتمتةُ العديد من الأنشطة المالية عبر العقود الذكية، مثل التحقُّق من صحة العقود والتسوية والامتثال. علماً بأنَّ العقودَ الذكية هي برامجُ ذاتيةُ التنفيذ تعمل على أتمتة مجموعة من الإجراءات المحدَّدة مسبقاً المطلوبة في اتفاقية أو عقد؛ بمجرَّد اكتمال الإجراءات، تكون هذه المعاملات قابلةً للتتبُّع ولا رجعةَ فيها، ما يُلغي الحاجة إلى وسطاء.
يمكن للمؤسَّسات أيضاً الاستفادةُ من التكنولوجيا لحماية معلومات المستخدم. فمن خلال استخدام حلول تحديد الهوية القائمة على البلوك تشين، يمكن للشركات إنشاء هويات رقمية آمنة ويمكن التحقق منها. يعمل هذا التكامُل على تحسين عمليات تأهيل العملاء، ويساعد في مكافحة الاحتيال وسرقة الهوية. تعدُّ بروتوكولات إثبات المعرفة الصفرية (ZKP) مثالاً مثالياً على ذلك، حيث تسمح للعملاء والمؤسسات بالتحقُّق ما إذا كان شيءٌ ما صحيحاً دون الكشف عن أيِّ معلوماتٍ أخرى بصرف النظر عن حقيقة صحة بيان محدَّد.
أخيراً، يمكن للبنوك المشاركةُ في بروتوكولات الإقراض اللامركزي وإدارة الأصول باستخدام البلوك تشين لتوفير إمكانات الاستثمار والقروض المضمونة، إمَّا مقابل الأصول في العالم الحقيق (RWAs) أو مباشرةً مقابلَ الأصول الافتراضية، بما فيها الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs).
تحدِّياتُ الأصول الافتراضية، البيئة التنظيمية
بالرغم من الوعد الهائل للأصول الافتراضية، فإنَّ البيئة التنظيمية المعقَّدة تمثِّل العديدَ من العقبات أمام البنوك. ففي حين أنَّها تسعى إلى إيجاد حلِّ وسْط بين تعزيز الابتكار وحماية العملاء والمستثمرين، تختلف الأنظمة التنظيمية اختلافاً كبيراً بين الولايات القضائية. يجب على البنوك اتباع لوائح الامتثال الصارمة للحدِّ من احتمالية الجرائم المالية والاحتيال وغسل الأموال. ولكن بالنظر إلى أنَّ البنوك فعلاً من أكثر مؤسَّسات الخدمات المالية تنظيماً، يجب ألَّا تكون مجموعةٌ جديدةٌ من اللوائح لمعالجة فئةِ أصولٍ جديدةٍ مفاجِئةً ولا مرهقة بشكل خاص لأنَّ البنوك في وضعٍ فريدٍ لبناء متطلبات كهذه داخل فِرَق الامتثال الخاصة بها.
إطار الأصول الافتراضية في دولة الإمارات العربية المتحدة
تقود البنوكُ التجارية والمرخَّصة في دولة الإمارات العربية المتحدة الطريقَ في استخدام تقنية البلوك تشين والأصول الافتراضية، حيث يمكن لشركات الأصول الافتراضية العملُ والابتكارُ في بيئة جديرة بالثقة وآمنة تُكملها أطر تنظيمية صارمة.
نظراً لأنَّ البنوك الإماراتية تعمل مع مُختلف الجهاتِ التنظيمية لتحديد أفضلِ مسارٍ للمضي قدماً، فمن الواضح أنَّ نقطة البيع الفريدة لدولة الإمارات العربية المتحدة تتمثَّل في وجود جهات تنظيمية نشطة ومستثمرة وذات كفاءة عالية تأخذ تكنولوجيا الويب 3 على محمل الجد وحدَّدتا على أنَّها مستقبل الاقتصاد. وهذه البصيرة، في رأينا، ستحقِّقُ أرباحاً هائلة في السنوات القادمة.
ادَّعت حكومةُ الإمارات العربية المتحدة أنَّها تؤدِّي دوراً قيادياً عالمياً في تحديد ما سيبدو عليه المستقبل، حيث تجمع بين الطموح البصري والتركيز بلا هوادة على التنفيذ.
وبصفته بنكاً، يلتزم البنك التجاري الدولي (CBI) التزاماً تاماً بدعم الحكومة في تحقيق رؤيتها. فنحن نُؤمن إيماناً راسخاً بأنَّ أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل تتمثَّل في المساعدة في تشكيله، وللمساعدة في تشكيله، نحتاج أولاً إلى فهمه. هذا هو السبب في أنَّه تبنَّى نهجاً للتجريب المستمر، والعمل من كثب مع شبكتنا من الشركاء الخبراء، مثل ’تي بي إل أدفايزرز‘ (TLP Advisors) بشأن إثبات المفاهيم (PoC) والدراسات التجريبية لتحديد وتطوير حالات الاستخدام الهادف لدمج التقنيات الجديدة، مع ضمان الامتثال التنظيمي الكامل ومعايير الأمن والتحكم الصحيحة في الوقت نفسه لحماية مصالح العملاء.
المزيد على كوينتيليغراف عربي: لماذا تحظى العملة الرقمية للبنك المركزي بدعمٍ قويٍّ في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
مستقبل الخدمات المصرفية في عصر الويب 3
ثمَّة كثيرٌ من الفرص الجديدة المثيرة للاستكشاف، ولكن من الضروري أن نفعل ذلك بطريقة تُظهر ثقةَ البنك الخاضع للتنظيم وسلامته ومصداقيته.
ثمَّةَ شيءٌ واحد مؤكَّدٌ — يجب على البنوك مواجهة الواقع المتصاعد للتأثير المثير للاضطراب الناتج عن الأصول الافتراضية والاقتصاد الرقمي على نموذج ممارسة الأعمال التجارية الذي يعود إلى قرن من الزمن. ستكون المؤسَّسات المالية التي تشكل نفسَها في هذا المشهد سريعِ التغير هي تلك التي ستفوز بالثورة وتخرج أقوى وأفضل وأكثر ليونة نتيجة لذلك.
الثورةُ ليست شيئاً متوقَّعاً في المستقبل أو بعيداً، بل هي هنا فعلاً وتستمر في الازدهار. ومع ظهور موجة صعود جديدة، لا يوجد وقتٌ أفضل من الآن لتكون مصرفياً تتطلَّع إلى الابتكار في مجال الويب 3.
Translated by Albayan Gherra
ترجمة البيان غره