بِقلم ألكسندر غوسف، المؤسس والرئيس التنفيذي لـ"Tectum"
منذ انطلاقه، حمل قطاع العملات المشفرة وعدًا جريئًا يتمثل بمنح 1.4 مليار شخص محروم من الخدمات المصرفية فرصة الوصول إلى الحرية المالية العالمية. وكان من المفترض أن يشكّل طوق نجاة لهؤلاء المُتضرّرين. ولكن، بعد مرور 16 عاماً، لا يزال استخدام الأصول المشفّرة محصوراً في 8% فقط من سكان العالم. ورغم كل الحديث عن "اللامركزية" و"سهولة الوصول"، تواصل صناعة العملات المشفرة تجاهل المليارات الذين يعتمدون على النقود في حياتهم اليومية."
سواء في الأسواق الصاخبة في نيروبي أو في بلدات بوليفيا الريفية النائية، لا تزال النقود الورقية تهيمن على المشهد — وتبدو الأصول الرقمية بعيدة المنال. إن هذه الفجوة ليست لغزاً بقدر ما هي دعوة للاستيقاظ. والأشخاص المحرومون من الخدمات المصرفية لا يحتاجون إلى تطبيقاتٍ أنيقة لا يُمكنهم تحميلها، ولا إلى محافظ رقمية لا يفهمون كيفية الوصول إليها. بل هم بحاجة إلى شكلٍ ملموس من العملات المشفرة، يبدو مألوفاً مثل الأوراق النقدية المجعّدة في جيوبهم. باختصار، هُم بحاجة لثورة قائمة على الورق، ومدعومة بتقنية "البلوكتشين"، وقادرة على تحقيق وعود القطاع.
لماذا الأدوات الرقمية وحدها لا تكفي
في الاقتصادات النامية عبر إفريقيا وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينية، لا تزال النقود الورقية تُهيمن على المشهد. فقط تخيّلوا بائعاً متجولاً في لاغوس يتعامل بالنايرا لشراء السلع، أو مزارعاً في راجستان يسدّد فاتورة معدّاته بالروبية. بالنسبة للكثيرين، تبقى البنوك بعيدة، أو مكلفة، أو ببساطة غير متاحة، ويواجه مستخدموها العديد من العقبات، من بينها ضعف الاتصال بالإنترنت وندرة الهواتف الذكية.
تفترض الأدوات الحالية للعملات المشفرة — "المنصات الرقمية"، و"المحافظ الإلكترونية"، و"رموز QR" المرتبطة بالتطبيقات وجود درجة من الوصول التكنولوجي والمعرفة الرقمية، لا يمتلكها معظم المستخدمين المحرومين من الخدمات المصرفية. كما أن "التضخّم" يُقوّض قيمة العملات المحلية، مما يدفع الناس للبحث عن بدائل، ويجعل من عملية الانخراط في عالم العملات المشفرة تبدو وكأنها متاهة. قد يسمع صياد في غانا ضجيج الحديث عن "البيتكوين"، ولكن من دون هاتف ذكي أو اتصال مستقر بالإنترنت، تبقى هذه التقنية بلا معنى بالنسبة له.
من اللافت أن 76% من المعاملات على مستوى العالم لا تزال تُنفذ نقداً. ففي الهند، ما زالت 63% من المعاملات تجري نقداً، رغم الضجة المتزايدة حول العملات المشفرة. أما في مصر، فالنسبة تصل إلى 72%، في حين لا يستخدم العملات الرقمية سوى 3%. وبينما تُسجل المغرب نسبة تبني تصل إلى 16%، لا تزال البلاد تعتمد بشكل رئيسي على النقود الورقية.
قوة الورق: إعادة هيكلة العملات المشفرة بما يتناسب مع العالم الحقيقي
تخيّلوا أوراقاً أو قسائم مدعومة بتقنية "البلوكتشين" — رموز مادية مرتبطة بقيمة رقمية، ويمكن تداولها مثل النقود. لا حاجة إلى تطبيقات أو حسابات — فقط تبادل مباشر بالأيدي، مدعوم بأمان وشفافية ولامركزية تكنولوجيا "البلوكتشين". وتصوّروا بائعاً في فيتنام يسلّم إيصالاً يحمل رمز QR إلى مشتري، يلمسه هذا الأخير بهاتف بسيط أو يحتفظ به لاستخدام لاحق. الفكرة ليست في إعادة اختراع المدفوعات — بل في تكييف العملات المشفرة لتتناسب مع أنماط الحياة القائمة فعلاً.
لقد شهدنا نجاح نماذج مماثلة، بما في ذلك نظام "M-Pesa" القائم على الوكلاء، والذي يضم أكثر من 66 مليون مستخدم نشط في إفريقيا، ويسمح للناس بتحويل النقود إلى قيمة رقمية دون الحاجة إلى حساب بنكي. ويمكن تطبيق النهج ذاته على الأوراق المدعومة بـ"البلوكتشين": تجار محلّيون يتداولون أوراقاً مشفّرة مقابل النقود، من دون أي تعقيدات أو حواجز تقنية.
خذوا مثلاً منصة "Machankura" — التي تتيح إجراء معاملات "البيتكوين" عبر الشبكات الخلوية البسيطة، ويستخدمها أكثر من 13,000 شخص. لا حاجة فيها للهواتف الذكية أو التطبيقات على الإطلاق. وفي معظم أنحاء إفريقيا، تعتمد المدفوعات الرقمية على رموز هاتفية بسيطة، وليس على التكنولوجيا المتقدمة، إذ يجب أن تلبي العملات المشفرة احتياجات المستخدمين في أماكن وجودهم — لا في الأماكن التي نرغب في وجودهم بها.
قد يعتبر بعض المتحمّسين للعملات المشفرة أن الورق أمر قديم. ورغم ذلك، فإنه عملي، وسهل الوصول، وملموس، وعندما يُدعَم بتقنية "البلوكتشين"، يصبح آمناً، ومحصناً ضد التضخم، وسهل الاستخدام — حتى لأولئك الذين لا يملكون حساباً مصرفياً.
بناء آفاق مالية جديدة
إن التحدي الكبير للعملات المشفرة لا يتمثّل بنقص الحماس — بل في الاعتقاد الضيق بأن التطبيقات والمحافظ الرقمية هي الطريق الوحيد للمضي قدماً. هذه العقلية تتجاهل واقع مليارات الناس الذين يعيشون في اقتصادات تعتمد على النقد أولاً.
العملات المشفرة الورقية قد تغيّر قواعد اللعبة. ولكن من أين نبدأ؟
تكمُن الإجابة تكمن في البدء من نطاقٍ صغيرٍ ومحليّ، حيث يٌمكن تكرار النماذج القائمة على الوكلاء، مثل "M-Pesa"، وهو صاحب متجر في كينيا يُمكنه قبول الأوراق المدعومة بـ"البلوكتشين" من الزبائن، ودفع ثمن البضائع للمورّدين باستخدام الوسيلة ذاتها — من دون حاجة إلى تغييرات تقنية كبرى. تخيلوا لو أن صناعة التحويلات، التي تنقل أكثر من 700 مليار دولار سنوياً إلى البلدان النامية، استطاعت تجاوز الرسوم المصرفية والتأخيرات بشكل كامل. ولو انتقل حتى 50 مليار دولار فقط إلى العملات الورقية المدعومة بالعملات المشفرة، لكان ذلك كفيلاً بخلقِ تحوّلٍ جذريٍّ.
ستكون الآثار اللاحقة هائلة، إذ أنه يُمكن أن تنمو الاقتصادات المحلية، وأن تتمكن المزيد من العائلات من الاحتفاظ بجزء أكبر من أموالها، كما يمكن لشبكة عالمية من وكلاء التحويل بين النقد والعملات المشفرة أن تولّد أكثر من 10 مليارات دولار من العائدات بحلول عام 2030 — في تكرار لصعود منصات الأموال الرقمية. قد تقاوم الحكومات في البداية، ولكن مع ازدياد فرص العمل، وارتفاع الإيرادات الضريبية، وتحقيق النمو الاقتصادي، سيصبح من الصعب تجاهل هذا الاتجاه.
نعم، توجد مخاطر — مثل فقدان الورق أو تزويره. ولكن هذا الخطر يطال النقود الورقية أيضاً. ومع وجود توكنات آمنة ووكلاء مدربين، يُمكن أن تكون الأوراق المدعومة بـ"البلوكتشين" آمنة تماماً. ويكمن الخطر الحقيقي في التّعلق باستراتيجيات رقمية فقط، مما يؤدي إلى إقصاء المليارات.
دعم المحرومين من الخدمات المصرفية في بيئاتهم
تتجاوز العقبات التي تعيق تبنّي العملات المشفرة حدود التكنولوجيا. فاللوائح، والظروف الاقتصادية، والعادات المحلية، كلها عوامل حاسمة. ومع ذلك، فإن الأشخاص المحرومون من الخدمات المصرفية لا ينتظرون مدينة فاضلة رقمية — إنهم يساومون، ويدّخرون، ويديرون حياتهم اليومية بالنقود الورقية التي يحملونها بأيديهم."
حان الوقت لتتوقف صناعة العملات المشفرة عن تصميم الحلول الملائمة لعالمٍ مثاليّ، وأن تبدأ ببناء حلول لعالمنا الواقعي. الحلول الورقية موجودة — لكنها بحاجة إلى دعم، وتجارب ميدانية، واستثمار.
فلنكفّ عن الجدال حول ما إذا كانت العملات المشفرة قادرة على مساعدة المحرومين من الخدمات المصرفية، فهي قادرة، ولكن عليها أن نُطوّرها بطريقة قابلة للاستخدام الحقيقي.
المزيد على كوينتيليغراف عربي: هل ستغيّر تكنولوجيا 'Soft Note' قواعد اللعبة في عالم الكريبتو؟ مقابلة حصرية مع الرئيس التنفيذي لـ 'تيكتوم'